الاثنين، 2 أغسطس 2010

عزلة الفعل الثقافيّ العربيّ :عبد الله بنيونس : موقع الاوان



                                                  عزلة الفعل الثقافيّ العربيّ : لماذا يعجز العرب عن تغيير أنفسهم؟

      
               في وسائل الإعلام المختلفة كما في أغلب مجالات الإبداع و المعرفة بشكل عامّ نجد المثقفين و غير المثقفين العرب ينتقدون هذه المجتمعات و يحلـّلون أوضاعها، حتى أصبح كلّ شيء معلوما: أنظمة استبدادية وغير وطنية، شعوب خاضعة مغلولة بالحديد و النار و الخوف من الآخرة، غياب شبه كلـّيّ للدّيموقراطية وحقوق الإنسان و الحرّيات، عقلية محنطة عاجزة عن النظر إلى الأمام، تعصّب و عنف و تخلف و جهل... عجز كلـّيّ عن التغيير و مواكبة الزمن... و أمام هذا الواقع " الرّديء" يمارس الجميع النقد و الفضح و التشهير و التحليل أملا في التغيير و الإصلاح، فتضيع الجهود سدى. و تبقى الأسئلة معلـّقة: لماذا كلّ هذا العجز والجمود مادام الجميع يعرفون العلل و أسبابها؟ لماذا يبرع الناس في تشخيص مشاكلهم و يعجزون عن حلـّها؟.. النقد الذاتيّ و الموضوعية في مواجهة الذات بعيوبها أوّل خطوة على درب التغيير، فلماذا تبقى هذه الشعوب عند تلك النقطة، حتى أنّ نقد الذات يصبح ضربا من التـّصعيد يمارسه الجميع ليكفـّروا عن ذنوبهم في حقّ شعوبهم وأوطانهم و أنفسهم. ثم ينقلب الواحد " فرحا مسرورا"، و لسان حاله يقول: قد أدّيت واجبي.. هناك فساد و أنا انتقدته فأدّيت رسالتي و انتهى أمري؟... لماذا يتحوّل نقد الذات ضربا من العقاب الجماعيّ يعمّق الشـّعور بالإحباط و الهزيمة و يرسّخ في الضمير الجمعي للشعوب العربية أنّ هذه حالنا و هكذا علينا أن نعيش إلى أن يأتي صاحب الحاجة فيأخذ حاجته؟
          ننظر الآن إلى الواقع العربيّ فنجد الدّار على حالها على الأقلّ منذ بدايات النهضة إلى الآن، رغم كثرة الأدبيات و الدراسات و الحركات التي حاولت و تحاول التغيير دون أن تحدث فرقا واضحا إلى حدّ الآن. فحلم الوحدة العربية لا يزال يراود الكثيرين رغم أن الواقع يتجه عكس ذلك تماما، و ما طرحه الطاهر الحداد و قاسم أمين مثلا حول المرأة لا يزال مطروحا إلى اليوم، و لا تزال الأقلام تسيل حبرها حول حرية المرأة و المساواة والسفور... دون أن تجد القضية لها حلا على أرض الواقع. و ها نحن في السنوات الأخيرة نسمع ضجيج من ينادون بإعادة المرأة إلى بيتها و أطفالها كأنّ التاريخ عندنا يعيد نفسه حقـّا !! و ما طرحه نجيب محفوظ و سعدالله ونوس حول علاقة المثقف بالسلطة و بالمجتمع لا يزال مطروحا و كأنّ الحال لا راحت و لا جاءت... و لنوسّع دائرة النظر قليلا لنلاحظ أنّ ما انتقده المعري قبل أكثر من ألف سنة حول الدين والدنيا لا يزال يسود حياتنا اليوم. فعلى سبيل المثال يتخيّل الكاتب مشهدا قصصيا يدور في الجنـّة بين جمع من الشعراء، فينشأ نقاش حول الشعر و يتحوّل الاختلاف حول عبارة شعرية إلى عراك و شتائم و تضارب بين النابغة و الأعشى ( رسالة الغفران لأبي العلاء المعري – تحقيق و شرح الدكتورة بنت الشاطئ – ط 7 - دار المعارف بمصر. ص 226 و ما بعدها ). و لننظر الآن إلى حياتنا، في البيت و في الشارع و في العمل كما في شاشات التلفزة و القمم السياسية... فما إن نختلف حتى نتشاتم و نتعارك، و كأنه لا مجال للحوار و النقاش الحرّ بيننا. و أحيل القارئ على رسالة الغفران كلـّها ليقرأ و ينظر بنفسه إن كانت حياتنا قد تغيّرت.
           و مثل هذا ما أورده التوحيدي في الليلة الرابعة و الثلاثين من الإمتاع و المؤانسة ( ط دار الكتب العلمية بيروت – ج 3 – ص 343 ) " و قال الوزير في بعض الليالي: قد و الله ضاق صدري بالغيظ لما يبلغني عن العامّة من خوضها في حديثنا و ذكرها أمورنا، و تتبّعها لأسرارنا، و تنقيرها عن مكنون أحوالنا و مكتوم شأننا. و ما أدري ما أصنع بها. و إني لأهمّ في الوقت بعد الوقت بقطع ألسنة و أيد و أرجل و تنكيل شديد، لعلّ ذلك يطرح الهيبة و يحسم المادّة و يقطع هذه العادة. لحاهم الله، مالهم لا يقبلون على شؤونهم المهمّة، و معايشهم النافعة، و فرائضهم الواجبة؟ و لمَ ينقـّبون عمّا ليس لهم، و يُرجفون بما لا يجدي عليهم؟..." و لنتأمّل الآن طريقة هذا السائس في سياسة الرّعية، و فكره السياسي الاستبداديّ، فكأن الحكم ملكية خاصّة له كما بيته و ماله، و لا دخل للرعية فيه. فإن تدخـّل أحد بمجرّد الكلام و التعبير عن الرّأي صُبّ عليه القمع و التنكيل الشديد.. و لنقارن هذا السائس بساستنا اليوم لنرى ما فعلته بنا ألف سنة من الزمان. إن بعض ساستنا اليوم يلزمون الناس بالدّعاء لهم في المساجد كما كان قبل ما يقارب الألفية و نصف. بل لقد عادوا بالانتخاب إلى ذلك التاريخ السحيق فجعلوه مبايعة، فينصّب السلطان نفسه أو يرث عن أبيه، و يفرض على الناس انتخابه – مبايعته.
           بل إنه من المثير للعجب أنّ تصنيف الفئات الاجتماعية في البلاد العربية الإسلامية لا يزال هو نفسه منذ ذلك التاريخ: خاصّة و عامّة و فئة ثالثة بين بين. فالخاصّة هم أصحاب النفوذ السياسي و المالي أي الملوك والأمراء و الأثرياء. و العامّة هم العمّال و الحرفيون و الفقراء و العاطلون... و أما الفئة الثالثة فهي فئة المثقفين التي تتأرجح بين الفئتين، فمن أرضى ذوي السلطان و مدحهم و تملـّقهم رُفع إلى الخاصّة و من أغضبهم أو أعرض عنهم أو انتقدهم هُمّش و أبعِد إلى العامّة، و ربما نـُكـِّل به فسُجن أو صُلب أو عُذ ِّب، و هذا يعيد إلى ذهني ما أطلقه الشيخ الأزهري فرحات المنجي، أحد ذوي السلطان الدّيني قبل أيام من "فتوى" تبيح التنكيل بالمخرجة المصرية إيناس الدغيدي وتدعو إلى قطع يديها و رجليها من خلاف !!! ( موقع الأوان – ركن خارج الإطار – 30 / 10 / 2009 ).
         و ماذا نجد اليوم في مجتمعاتنا العربية؟ خاصّة و عامّة و فئة مثقفة متأرجحة بين الإثنين بحسب ميولاتها و ولاءاتها و حساباتها، حتى أنه على المثقف العربي أن يختار بين أن يكون مثقف السّلطة أو مثقف الشعب، وليعرف مسبقا نتائج هذا الاختيار.
         إنّ هذه الأمثلة لتفضي بنا إلى نتيجة مؤلمة و محيّرة، و هي أن هذه الشعوب عاجزة عن تغيير حياتها ومواكبة التاريخ. و كأنها تعيش خارج الزمن فلا يفعل فيها فعله في سائر الأشياء. و سأحوّل عبارة المعري عن سياقها لأصفَ هذه الحالة: " لا يزال كذلك أبدا سرمدا، ناعما في الوقت المتطاول منعّما، لا تجد الغِيَرُ فيه مزعما." ( رسالة الغفران المصدر نفسه صص 379 ).
              لماذا نعجز عن تغيير أنفسنا؟
            إنّ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي بحثا ينطلق من طرح كلّ الفرضيات التي تخطر في البال و التفكير حولها علّ ذلك يسعفنا ببعض من الجواب. و سأفترض الآن أنّ الثقافة لم تفعل في الشعوب العربية فعلها. لأنـّه من البديهي ربما أنّ الناس يتطوّرون بتطوّر الفكر البشريّ و الثقافة الإنسانية. و المثقف هو المسؤول عبر التاريخ عن تغيير حياة الناس، لأنـّه هو من ينتج المعرفة التي تؤثر في حياة الناس، و أقصد بالمعرفة مختلف إنتاج الفكر البشري في مختلف المجالات العلمية و التقنية و الفلسفية و الفنية التي تجعل الناس يعيدون النظر إلى أنفسهم و إلى أنماط سلوكهم و أنساق تفكيرهم و أذواقهم، و من ثـَمّ رؤيتهم لذواتهم و للعالم.
          و إذا كانت الثقافة العربية الإسلامية على تنوّع مجالاتها منذ القديم إلى اليوم لم تغيّر نمط الحياة العربية، و لم تجعل العربيّ مواكبا لحركة التاريخ، فإنّ ذلك يعود في نظري إلى عزلة المثقف و المنتج للمعرفة عن الشعوب العريضة. إذ ظلت النخب المثقفة معزولة عن الناس، و ظلّ المثقفون العرب قديما و حديثا يتثاقفون في ما بينهم فينتج بعضهم الثقافة لبعض. و ظلت الشعوب العريضة بعيدة، تنشئ ثقافتها و معارفها هي الأخرى وتعيشها. و أسباب هذه العزلة كثيرة سأحاول في ما يلي النظر في أهمها، من وجهة نظري طبعا.
         أوّل تلك الأسباب إصرار السلطة السياسية العربية منذ نشأتها بشكل " منظم" مع مجيء الإسلام إلى يومنا هذا على وضع يدها على الثقافة و المثقفين. فقد كانت السلطة حريصة على مصالحها المتمثلة أساسا في إبقاء الرّعايا خاضعين راضخين، و دوام السؤدد على رؤوس الناس بينما تلهج الألسنة بالحمد و الثناء على أولياء نعمهم أو شقائهم و بؤسهم. و لتحقيق ذلك عملت تلك السلطة في القديم كما في الحديث على التحكـّم في الإنتاج الفكريّ و الإبداعي للمثقف العربي. فتساهلت في نشر ما يلائم سياستها و يكرّس مصالحها، بل و دعّمته و غذته، و من ذلك ما يُدفع لشعراء البلاط قديما و حديثا، و ما يُعرف عن تقريب المثقفين الموالين و تدليلهم ومجازاتهم بأنفس الجوائز. و مقابل هذا الدّعم لمثقفي السلطة يمارس الحكام شتى أشكال العزل و الإقصاء لكلّ إنتاج فكريّ و إبداعيّ لا يخدم مصالحهم. و من أشكال المنع ما يتعرض له المثقفون و المبدعون قديما و حديثا من قتل و سجن و تنكيل و تشريد... أو من تهميش و إقصاء و تجويع. و في بلاد لا توجد فيها سوق للثقافة والفكر إذا أرادت السلطة السياسية قتل مبدع منعت عنه الدّعم و الرّعاية فتضوّر جوعا. و أذكر الآن ما خطه التوحيدي في رسالة ذيّل بها كتاب الإمتاع و المؤانسة الذي وجّهه إلى صديقه أبي الوفاء المهندس الذي توسّط له للوصول إلى الوزير عبدالله الحسين بن سعدان، أحد وزراء صمصام الدولة البويهي، و من مسامراته للوزير تكوّنت المادّة الأولى للكتاب. يقول التوحيدي في تلك الرسالة مخاطبا أبا الوفاء المهندس: " خلـّصني أيها الرّجل من التكفـّف، أنقذني من لـُبس الفقر، أطلقني من قيد الضـّرّ، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء و العشاء... إلى متى الكسيرة اليابسة و البقيلة الذاوية و القميص المرقع و باقلي درب الحاجب و سذاب درب الرّواسين؟... إلى متى التـّأدّم بالخبز و الزيتون؟ قد و الله بحّ الحلق، و تغيّر الخلـُق. الله الله في أمري، اسقني فإنني صدٍ، أغثني فإنني ملهوف، شهّرني فإنني غـُفلٌ، حلـّني فإنني عاطل.
        قد أذلـّني السّفر من بلد إلى بلد، و خذلني الوقوف على باب باب... ذكـّرْ الوزيرَ بأمري، و كرّر على أذنه ذكري، و أمل عليه سورة من شكري، و ابعثه على الإحسان إليّ... أنفقْ جاهك فإنه بحمد الله عريض، و إذا جدتَ بالمال فجد بالجاه أيضا فإنهما أخوان... دعْ هذا و ادعُ لي بألف درهم فإنني أتـّخذ رأس مال، و أشارك بقـّالَ المحلـّة في درب الحاجب، و لا أقلّ من ذا، تقدّم إلى كسجٍ البقالِ حتى يستعين بي لأبيع الدفاترَ..." ( الإمتاع و المؤانسة. المصدر نفسه صص 424 – 425 ). إنّ هذا الشاهد يكشف لنا عمق السقوط الذي يتهدّد المثقف إذا أهمِل و جُوّع. ففي النهاية هو إنسان له متطلبات و غرائز و رغبات. و ليس هو بالملاك الذي يمكنه أن يتخلـّص من شقـّه الإنسانيّ، و لا هو بالنبيّ الذي ينزل الموائد من السماء. و يمكننا هنا أن نتساءل عن الضـُّرّ الذي يبلغ بمفكـّر مثل التوحيدي أن يُلحف في سؤال صديقه حتى يتوسط له عند وزير أو ممدوح أو حتى بقـّال يستخدمه في بيع الدفاتر. و إذا كانت مأساة التوحيدي قد غبرت في الزمان فإنها تتكرّر إلى حدّ الآن مع تواصل السياسة ذاتها التي ينتهجها ساستنا مع مثقفينا. فيد تمدّ الجزرة و يد تلوّح بالعصا لكلّ من تسوّل له نفسه التوقف عن ضرب الطبل للسلطان الجائر. فهو التهميش و الإقصاء و التجاهل و التجويع لكلّ مثقف لا يظهر حسن النوايا و لا يتواطأ مع الظلام. أما إذا نطق و لو سهوا بما يُغضب فإن العصا تسارع إلى القرع على رأسه بوحشية، سجنا وتعذيبا و تنكيلا شديدا... و لذلك نلاحظ اليوم أنه لكلّ سائس عربي " مثقفون" في كلّ فنّ يلهجون بذكره رغم أنّ قبائحهم جميعا معلومة عند القاصي و الدّاني. و في المقابل نجد الكثير من المثقفين المغضوب عليهم يُشرّدون في كلّ بقاع الأرض أو يُنكـَّلُ بهم أو يجوّعون فيضطرّ أغلبهم إلى ممارسة مهن تستنزف جهودهم حتى يحصلوا على رزقهم. فإذا استطاع الواحد منهم أن يبدع شيئا فإنه يسرقه من نومه و جسده و معاناته اليومية.
           و في بلاد لا توجد فيها سوق للثقافة، في الحديث و المعاصر كما في القديم التالد، خارج فيء السلطان، و يُمنع فيها تقريبا نشر الفعل الثقافي المستقلّ لا يجد المثقف خلاصا. فإن لم يسقط في أحابيل السلطان، و لم يبع ضميره و ذمّته و عقله و حرّيته و قريحته، سقط في مطبّ اليوميّ الذي يقوده إلى أشكال أخرى من السقوط المرّ حتى يظلّ يتنفـّس، فمن السّمسرة إلى التمسّح بالأقدام إلى التلاشي إلى الغرق في مختلف أشكال الإدمان... و إذا كان التمسّك بالفعل الثقافي المستقلّ و بالتالي الناجع و الإيجابي في الزمان العربي الممتدّ كالقبض على الجمر، فما كلّ إنسان يقدر أن يقبض.
         و من المعلوم أن السلطة السياسية شقيقة السلطة الدّينية في البلاد العربية. فقد نشآ معا، و تمدّدا معا، وملكا العقول و القلوب و الأجساد معا حتى يخيّل إلى الناظر أنهما توأمان أبديان لا حياة لأحدهما إلا بالثاني. و رغم أن العلاقة بين الإثنين عرفت على مرّ العصور تجاذبا و تدافعا، ففتر التلاحم في بعض الفترات بشكل ظرفيّ سرعان ما امّحى، فإنهما قد تحالفتا منذ البدء إلى يوم الناس هذا على محاصرة المثقف و تسييجه، لأنـّه مثل مصدر خطر عليهما دائما. إذ ظلـّتا تخشيان العقول الحرّة و تقمعانها و تعزلانها عن الجماهير حتى لا تفعل فعلها. لأنّ العقل إذا أُطلِق له العنان قوّض السلطتين معا. و لذلك كان لا بدّ لهما من إحكام السيطرة على الفعل الثقافي حتى يستمرّ الظلام مطبقا. و التاريخ يشهد على حملات التكفير و اتـّهام المثقفين قديما و حديثا بالزندقة. بل يشهد التاريخ أيضا على فتاوى القتل و إباحة الدماء و التنكيل الشديد. فمن قصة غيلان الدمشقي القدريّ الذي دعا له الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بالفقيه و القاضي ميمون بن مهران الرّقـّي ليناظره في القضاء والقدر، ثم أمر بقطع يديه و رجليه ( تاريخ الطبري ط. مؤسسة عزالدين للطباعة و النشر بيروت 1985 – ج 7. ص. 106 ). إلى قصّة سلمان رشدي و عبد الرحمان منيف قبل سنوات، إلى قصّة إيناس الدّغيدي و الشيخ الأزهري قبل أيام قليلة. و غير هؤلاء كثير. على أننا نلاحظ في تاريخ السلطتين صفحات دامية انقلبت فيها إحداهما على الأخرى. و من ذلك مثلا ما تعرّضت له المتصوفة و المعتزلة على يد العباسيين، أو ما تعرضت له المدارس الدينية في الباكستان قبل نحو عام، أو ما فعله الأصوليون في الجزائر في التسعينات، أو ما تفعله الآن بعض الجماعات الإسلامية هنا و هناك في بلاد الإسلام و في العالم. و قد تعلـّم الطرفان الدّرس جيّدا. فالسياسيون يدركون جيّدا أهميّة الدّين في بسط نفوذهم، فيهادنون رجال الدين و يتملـّقونهم. و رجال الدين يعرفون خطر السياسيين عليهم إذا أغضبوهم، لذلك يُفتون في كلّ شيء إلا في أمر الساسة الجائرين. أما المثقف فهو العدو المشترك الذي تعمل السلطتان على تدجينه و إحاطته بالممنوعات و التابوهات. و قد تعلـّم هو الآخر الدّرس. تعلـّم التقية و الترميز و إخفاء الأفكار تحت تهويمات الخيال و طلاسم اللغة، أو القفز على حفر الممنوعات، أو التعسّف على الأفكار حتى تتناسب مع القوالب المسطورة. و هذا ما جعل مشاكل كثيرة لا تجد لها حلاّ رغم أنها استمرّت في سَجن العرب و المسلمين و تعذيبهم لأكثر من ألف سنة. و من تلك المشاكل التعصّب و الجنس والعنف و الخوف و " الرضا بالمكتوب والصّبر على المكاره إلى أبد الآبدين"... و ذلك لأنها من المواضيع المحظورة التي لم يخض المثقف فيها إلا بما لا يغضب أسياد الدين و السّياسة، أو لأنـّه خاض فيها بشكل موغل في التـّخفي  فبقيت أفكاره معزولة متعالية لا يقربها إلاّ خاصّة الخاصّة من المتضلـّعين  في الفهم. أمّا العامة فلها أن تتسلـّى بما عرّب ابن المقفـّع على ألسنة الحيوانات ( رغم أنّ تقيته لم تشفع له )، أو بما كتب المعرّي عن عالم الآخرة. كما لها اليوم أن تتسلـّى بالفنّ الهابط الذي يضجّ من كلّ فجّ عميق، أو أن تتخدّر بتعاويذ شيوخ العلم الذين "يقودون الناس إلى السلاسل بالجنـّة". و كأنـّه مكتوب على العامة أن تـُقمع و تتسلـّى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
           من الأساليب التي ابتدعها الساسة لعزل العامّة عن الفعل الثقافيّ إلهاء النـّاس بالأثقال اليومية حتى لا ينظروا إلى أبعد من معاناتهم. و ذلك من خلال التجويع في بعض البلاد الإسلامية، أو من خلال غلاء الأسعار وإجحاف الضرائب، و إغماض الأعين عن الفساء حتى يعشّش و يستشريَ، فتفسد المصالح الحكومية و تنتشر الرشاوي و الوسائط و تسوء الخدمات الصّحّية و الاجتماعية، و ينهار التعليم، و يُصاب النقل العموميّ بالشـّلل النصفيّ... فإذا الإنسان العربيّ المسلم يكدح و يُعذ َّب تحت سياط اليوميّ، همّه أن يرابط في طوابير المستشفيات العمومية ليُدفـَن حيّا في ويلات مرضه، و أن يُمضيَ الساعات الطوال في زحام وسائل النقل فيصل عمله منهكا و يعود منه منهكا، و أن " يُعطي للذلّ كـَارَهُ" حتى يجمع القروش فيدفع الضرائب و الرشاوي و يبني قبر الحياة، و أن يعيش حياته غارقا في الوسخ و الزبالة و مستنقعات مياه التصريف، محروما من رؤية شارع نظيف أو حديقة عمومية مهذ ّبة، و خائفا على نفسه و أهله و أملاكه و عمله من جور الحكـّام و كيد الكائدين و سطوة اللصوص و المجرمين أمام فساد القضاء و غياب سلطة القانون و حقوق المواطنة. و أمام تكرّر هذا البؤس صباحا مساء تألفه الأعين و الأنفسُ حتى يرسخ في الوعي و في اللاوعي أن الحياة هكذا. و مع كلّ هذا يمعن القامعون في القمع و إخماد العقول و الأرواح و الأجساد بالخوف و الحديد و النار، فيتحوّل الإنسان العربي المسلم إلى إنسان مريض مأزوم، خامل و عنيف و عصبيّ في بيته و في عمله و في حياته كلـّها، ديدنه أن يغالب أيامه، و أن يسرق من الحكومة و الأملاك العمومية أو الخاصّة ما به ينتقم لكلّ العذاب الذي يعيشه. و لا بأس مع كلّ هذا من مسلسل هابط يدفن فيه الناس بؤسهم و يجنحون بالخيال إلى الزمن الغابر، أو شيخ ملتحٍ يهوّم بالأرواح في عبير الجنة، فيقنع الناس، من حيث يدري أو لا يدري، بالصبر على بؤسهم لأنّ " الحياة هي في مكان آخر"، أو موسيقى رخيصة تسلـّي الناس و تحملهم إلى عنفوان غرائزهم دون أن تنقـّيَ أرواحهم، أو فضائيات العالم تعرض على العرب والمسلمين حروبهم و تفجيراتهم و جثثهم المكدّسة و المحروقة و مخيمات لاجئيهم و حوادث قطاراتهم و انهيار جبالهم على مساكن مساكينهم... و لنقرأ ما كتبه التوحيدي في إمتاعه لنرى إن كانت الحال قد تغيّرت: " كلّ ما كنا فيه كان غريبا بديعا عجيبا شنيعا. حصل لنا من العيّارين قـُوادٌ و أشهرهم ابن كبرويه و أبو الدّود و أبو الذباب و أسود الزبد و أبو الأرضة و أبو النوابح. و شـُنـّت الغارة و اتـّصل النـّهب، و توالى الحريق حتى لم يصل إلينا الماء من دجلة أعني الكرخ..." ( الإمتاع – المصدر نفسه ج 3 – ص 387 ). و العيارون هم عصابات اللصوص التي انتشرت في بغداد في القرن 4 هـ ، و امتهنت النهب والسرقة، و استفحل أمرها حتى أصبح لها قواد معروفون و ملابس خاصّة. و تذكر بعض المصادر أنّ السّياسيين كانوا يستعينون بتلك العصابات لمعاقبة خصومهم.. و لنقرأ قوله: " و غلا السّعر، و أخيفت السّبل، وكثر الإرجاف، و ساءت الظنون، و ضجت العامّة، و التبس الرّأي، و انقطع الأمل، و نبح كلبٌ كلِبٌ من كلّ زاوية، و زأر كلّ أسد من كلّ أجمة، و ضبح كلّ ثعلب من كلّ تلعة..." ( الإمتاع – المصدر نفسه ج 3 ص 346). و لنقارن الحال بالحال لنرى إن كانت ألف سنة من الزمان قد غيّرت...
           في النهاية تصبح الحياة الدّنيا كما الآخرة مقسومة بين الجنة و الجحيم، جحيم الواقع اليوميّ حيث المساكين تـُصَبّ عليهم صنوف العذاب، و جنة المال و الجاه يتنعّم بها الأثرياء و المقرّبون فيتبذخون في متع الحياة. و يتبادل الجميع النظر، فيرى أهل الجنـّة عذاب أهل الجحيم فيهنـّؤون أنفسهم و يسارعون إلى إشباع نهمهم و تعزيز مواقعهم بكلّ السبل حتى لا يسقطوا في العذاب. و يرى المعذبون نعيم إخوانهم فيدركون أنّ السبيل إلى الجنة هي المال و الرشوة و شراء الأكتاف فيكدحون و يكدحون، و يبذلون كلّ نفيس في سبيل الحصول على جنة الدنيا دون أن يكون بلوغها قريبا. و إذا المال و الجاه وحدهما مفتاح السعادة و الهناء، فلا مجال لمعرفة، و لا لفكر و لا لحريات و لا لحقوق إنسان و لا لقراءة و لا لفنّ مثمر... و من ثمّ يبقى المثقـّف معزولا فيسقط هو الآخر في حمّى الجنـّة و النار باذلا كلّ نفيس، أو يمعن في عزل نفسه في تهويمات ثقافته المتعالية التي لا يشاركه فيها إلا أمثاله من " النخبة" أو يقتل نفسه بالحياة. و معروفة قصص عزلة المثقفين وإتلافهم مؤلفاتهم و اعتزالهم الفعل الثقافي قديما و حديثا. أمّا إن زلـّت قدم المثقف و تطاول على المحظور فمصيره كما أسلفت معلوم.
         و من حيل عزل الثقافة الفاعلة و إقصائها تغذية " ثقافة الوهم" و تشجيعها و دعمها، و لذلك تغزو وسائل الإعلام العربية الرسمية و غير الرسمية عقول الناس و أذواقهم و مشاعرهم بالبرامج الدينية التي تريدهم أن يعيشوا كما عاش الأجداد الأوائل قبل عشرات القرون، و بالفنّ الهابط كالفيديوكليب و مسلسلات المائة حلقة والرّياضة و تمجيد أرباب النـّعم و شموس الزمان. بينما لا يُتاح المجال للبرامج المفيدة و الضرورية إلا القليل القليل من باب ذرّ الرّماد على الأعين. و لنا أن نتساءل: ما حظ الرّواية العربية اليوم من وسائل الإعلام؟ أو ما حظ الشـّعر أو الفكر بصفة عامّة؟ و ما حظ المسرح و الموسيقى الجيّدة و الفنّ التشكيليّ و غيرها من الفنون والعلوم؟ بل ما حظ الحرّيات و حقوق الإنسان و قضايا العنف العائليّ و حقوق المرأة و حقوق الطفل من المشهد الإعلاميّ العربيّ؟ ما حظ الفساد الإداري الذي يقتل الإنسان العربيّ " عِرقا بعد عِرقٍ" في المستشفيات والمحاكم و المؤسسات العمومية بشكل عامّ؟ فكأنّ الإنسان العربيّ قد تخلـّص من كلّ مشاكله و لم يبق له إلا أن يستمتع بالكليبات المجنونة و مسلسلات المائة حلقة و النقاشات الرّياضية المعمّقة !!!
     أنا لست ضدّ الرياضة و لا ضدّ البرامج الرياضية أو الدّينية أو الفنية المتنوّعة. و لكن لمَ لا تكون وسائل الإعلام عادلة في تعاملها مع الإنسان العربيّ الذي يعطيها الكثير من وقته و من ماله؟ لمَ لا يكون هناك تعدّدية في المشهد الإعلامي؟ لمَ لا نجد إزاء هذه البرامج اهتماما بالفكر و الكتابة و العلوم و الفنون المختلفة على تعدّد أشكالها و اتـّجاهاتها؟ فمن المعلوم أنـّه هناك الكثير غير المثقفين المدلـّلين. هناك مسرح آخر و موسيقى أخرى وفكر آخر. هناك إبداع آخر تـُغلق دونه الأبواب حتى يظلّ معزولا، لأنّ أرباب السّلطتين يخافون منه على مناصبهم و امتيازاتهم المتوارثة جيلا بعد جيل.
           قبل سنتين تقريبا سمعنا عن قمّة عربية حول الإعلام، و تحدّثوا وقتها عن حماية الأجواء العربية من فضائيات ضارّة، ونلاحظ الآن جنون الفضائيات الدينية و الفنية، بل نلاحظ أنّ بعض الفضائيات التي كانت رائدة تتـّجه خفية إلى تغيير نهجها للانضمام إلى السرب، و من ذلك مثلا قناة الجزيرة. فهل كلّ هذا من نتائج تلك القمّة؟
         الأنترنات تمثـّل بوابة جيّدة لنشر ثقافة بديلة في الوطن العربي، و ليلجها من المثقفين من يُعزلون خلف الأسوار العالية. و لكن هل بقيت الأنترنات نقية من حرّاس القطيع رغم محدودية انتشارها في الوطن العربي؟ فالجميع يعرف أنّ من يسهرون على سلامتنا من كلّ عقل قد أطلقوا جواسيسهم و فِرقهم المدرّبة عبر أدغال هذه الشبكة لإغلاق هذا الموقع، أو مراقبة بريد هذا المستعمل أو مصادرة منشورات هذا الصّديق في الفايسبوك... فهل يستطيع هؤلاء المتضلـّعون في القمع أن يُحكموا قبضاتهم على الشبكة التي انفلتت من أيدي صانعيها؟
          السبب الثاني الذي ساهم في عزل الفعل الثقافي العربي عن الجماهير هو معظلة التعليم. فمن المعروف أن الشعوب العربية بقيت ترزح تحت ظلام الأمية إلى وقت غير بعيد. و عندما أخذ التعليم في الانتشار بعيد الاستعمار ارتبط في الأذهان بالشهادة العلمية التي تقود إلى الوظيفة و أكل الخبز، و لمَ لا العسل. و لذلك بقي التعليم معزولا في البراغماتية الضـّيّقة. فيتعلـّم الناس و يتوظفون دون أن يتثقـّفوا لأنـّهم لم يفكـّروا يوما في علاقتهم بالمعرفة و بالثقافة بوجه عامّ. كلّ ما همّهم هو علاقتهم بالشهادة و الوظيفة و المال الذي يرفعهم عن جحيم الأشقياء إلى نعيم المتنعّمين بجنة الأرض. و لذلك نجد اليوم في الوطن العربي ارتفاعا في نسب المتعلمين تفوق 90% في بعض الأقطار. لكن العقلية تبقى نفسها شبه جاهلية. فالقبلية بقيت على حالها أو تحوّلت إلى عروشية أو جهوية في بعض الأقطار. و الناس سجناء في خرافاتهم و خوفهم و حياتهم اليومية التي تسيّرها غرائزهم و نزعاتهم و عاداتهم المتوارثة أكثر ممّا تسيّرها عقولهم. فالاختلاف مرفوض حتى أنّ الناس يخافون من الاختلاف حتى في اللباس و المظهر الاجتماعي، و الحوار مرفوض، و العنف مسيطر على العلاقات العائلية و المهنية و الاجتماعية بوجه عامّ، و الطفل خاضع للتربية التقليدية ذاتها فلم يرتقِ بعدُ إلى مرتبة الإنسان الذي يتمتـّع بحقوق في البيت و في الشارع و في المدرسة، و مازال الناس يرهبون السّاسة و يتفانون في الخضوع لهم حتى يفوزوا برضاهم و بركاتهم كما كانوا يفعلون منذ ألف و خمسمائة سنة. و الجميع تقريبا متعلـّمون، و الكثيرون منهم من حاملي الشهائد. و الغريب في الأمر أننا نجد اليوم الطبيب العربيّ و المحامي و الأستاذ و المهندس لا يقرأ كتابا خارج اختصاصه، و لا يعرف شيئا عن الرواية و الشعر و الفنّ التشكيلي و المسرح. و أنا أتساءل كيف درس هؤلاء الأدب و التاريخ و الفلسفة في مدارسهم؟ ألم يبق في أذهانهم شيء مما حفظوه لنيل شهائدهم؟
        التعليم ينير العقول و يعيد بناء الإنسان العقلانيّ الحرّ على الأقلّ في تفكيره و نظره إلى الأشياء، لأن البرامج التعليمية تتيح للمتعلـّمين أن يطلعوا على شيء من الفنون المتنوّعة و على التاريخ و ما فيه من تغيّرات ونضالات و أحرار، و على الفلسفة باعتبارها محطة حاسمة في حياة المتعلـّم و شخصيته لأنـّّها تعيد النظر في كلّ المسلـّمات و البديهيات، و تدفع إلى التساؤل و الحيرة. فكيف يتخرّج إنسان من التعليم إلى الوظيفة ليسارع إلى بناء بيت كبير و لا يضع فيه من الكتب غير مجلـّدات الزينة و التـّبرّك و طرد العيون الحاسدة و الشياطين؟ و كيف يطمر حامل الشهادة حديقته بالإسمنت خوفا من النـّمل و الخنافس؟
         نعلم جميعا أنّ التعليم قد ساهم في بعض الأقطار العربية في تنوير العقول و تخريج نخبة عقلانية هي الآن مشرّدة في كلّ بقاع الأرض. و ما إن اكتـُشِفت هذه الثمار حتى سارع الذين تحمّسوا للعلم إلى طرح الأسئلة: لماذا نعلـّم الشـّعوب؟ لماذا نغرس الأشجار التي تقتلعنا؟... و من ثمّ ابتكرت كلّ الحيل الجهنمية لضرب التـّعليم وطمس كلّ بارقة فيه حتى يخرج إطارات لا تفقه غير وظائفها، بل لعلها لا تفقهها. و اضمحلال دور التعليم اليوم و تهميشه و مساهمته في تجهيل الناس في الأقطار العربية لا يخفى على أحد.
          السبب الثالث الذي ساهم في عزل الفعل الثقافيّ عن الجماهير العربية هو معظلة اللغة. فالشعوب تتكلـّم لهجاتها المعروفة، بينما تستحوذ الفصحى على الفعل الثقافي و المعرفي، بل لعلّ اللغات الأجنبية تأخذ منه نصيبا وافرا. و السؤال المطروح هنا هو: لمن يتوجّه هذا الإنتاج الثقافيّ و المعرفيّ؟ أهو مقتصر على النخبة أم أنـّه يستهدف المجتمع و يعمل على تطويره؟ و من يقدر على تلقـِّي ذلك الفعل؟ و إذا سلـّمنا بأن نسبة مرتفعة من الشعوب العربية اليوم تعرف الفصحى على الأقلّ، فهل تكفي معرفة القراءة و الكتابة لتحقيق التـّلقـّي الجيّد الذي يقتضي التفاعل مع عالم اللغة في بنائها الصوتيّ و الصرفيّ و المعجميّ و البلاغيّ و المصطلحي، و في مرجعياتها الحضارية و القيمية و الجمالية، و في العلاقة النفسية و الوجدانية  التي تنشأ بين المتلقـّي و الرّسالة الفنية أو الإبداعية أو الفكرية أو العلمية؟ إنّ التـّلقـّي الجيّد هو الذي يمكـّن المتلقـّي من التغلغل في عالم اللغة الفسيح و المعقـّد، و يمكـّن في الوقت نفسه من تغلغل الرّسالة في العالم الذهنيّ و النـّفسيّ و الوجدانيّ للمتلقـّي، فتتحقـّق تلك المحاورة العميقة بين الرّسالة و متلقـّيها. ممّا يسمح لذلك المتلقـّي بطرح الأسئلة و التفكير العميق لبناء وعيه بذاته و بالعالم، و لإعادة ذلك البناء مع كلّ تلقٍّ جديد. إنّ التـّلقـّي الجيّد هو وحده الكفيل بتحقيق عملية البناء و إعادة البناء، و ذلك يعني خلق الحراك الذهنيّ و النـّفسيّ و الوجدانيّ للخروج بالذات من حالة الجمود والرّكود و الوصول بها إلى مستوى محاورة المعرفة و الفنّ، بل محاورة ذاتها و مجتمعها و عالمها و حياتها، لأنّ المعرفة اليوم هي الذات و المجتمع و العالم و الحياة. فمن يقدر اليوم في هذه الشعوب العربية على قراءة الشعر كما يجب أن يُقرأ؟ أو قراءة الرواية، فضلا عن المقالة الفلسفية أو النقدية؟ أهي النخبة المثقـّفة؟ و من هذه النخبة المثقـّفة؟ أهي الكوادر المتعلـّمة التي لم تر في العلم غير تحصيل الوظيفة؟ أم هي الكوادر التي تجهل اللغات كلها خارج مجال اختصاصها؟ أم هي النـُّخبُ المتوالدةُ بتوالد الولاءات و التـّحزّبات و المصالح؟ أم هي النخبة التي استطاعت أن تتمكـّن من لغة ما فتقرأ فيها قراءة جيّدة؟
         معظلة اللغة إذن تبقي الجماهير معزولة عن الثقافة و الفكر المكتوب، فتـُعزل آليا عن الموسيقى والمسرح و السينما و الفنّ التشكيلي و العلوم التطبيقية... لأنّ عقل الإنسان العربيّ الجامد و المعزول هو نفسه الذي يتعامل، إن تعامل، مع هذه المجالات جميعا. و إلا كيف يكون الطبيب عندنا لاعقلانيا؟ و المهندس لاعقلانيا؟ والمدرّس لاعقلانيا؟... فالعلم عندنا لأكل الخبز أو العسل، و الفنّ عندنا للتـّسلية أو للتباهي... أما حياتنا فلتمضي على مهل  حسب الأصول أو العادة و السنـّة، و" الله لا يَقـْطْعِلـْنا عادهْ". و أتحدّث هنا عن الشعوب العريضة، لأنّ النخبة حسب رأيي تظلّ، ما لم تجد سبلا لتمرير ثقافتها إلى الجماهير، أقلـّية ضئيلة غير فاعلة في المجتمع مهما ازدهرت ثقافتها و فكرها، بل لعلّ ازدهار فكرها و ثقافتها يزيدها عزلة عن مجتمعاتها فتزداد غربتها ويضعف تأثيرها و يتعمّق لديها الشعور بالإحباط و القهر الذي نراه يخيّم على الكتابات العربية المقروءة اليوم.
        أما الجماهير فلها لغتها التي تختزل حياتها و فكرها و قيمها... و يكفي أن نتابع " طُرْحْ كـَارْتـَه" في إحدى المقاهي التونسية مثلا، و نفحص الحوار المرتجل المرافق للـّعب لنعرف ما يعيشه الناس من إلفة مع عاميتهم، وما تزخر به من طاقات تعبيرية و جمالية و تأثيرية، لكنها تبقى في اللعب فلا تمتدّ إلى الفكر و المعرفة والإبداع. أو يكفي أن نحلل الملفوظ الجنسي في العامية التونسية لنقف على ما فيه من صور و تجريد و خيال و موسيقى... لعلـّها جمالية الملفوظ الجنسي الغريبة تفتن التونسيّ محاميا كان أو مدرّسا أو طبيبا أو فلاحا أو عاطلا... حتى أن ذلك الملفوظ أصبح في بعض المناطق جزءا هاما من التخاطب اليوميّ لا تعارض فيه مع الذوق و لا الأخلاق ولا القيم، إذ تسمعه في العائلات كما في المقهى و الشارع... لكنّ السؤال المطروح هنا هو: ما سرّ ذلك الافتتان؟ أهو المكبوت؟ أم الوعي الجنسي أو الذكوريّ بالعالم؟ أم هو التمرّد باعتباره خصيصة إنسانية عميقة تبحث لها دائما عن تجلّ ما حتى يظلّ الإنسان إنسانا؟
        السبب الرابع لعزلة الفعل الثقافيّ هو افتتان العرب بالزعامات. ففي كلّ عصر و في كلّ مجال هناك شموس تحجب بصيص النجوم. فتتمدّد الأسماء الكبيرة حتى تبتلع الصّغار. و ليست الثقافة بمنأى. فللمسرح زعماؤه، و للسينما كما للشعر و النـّقد و الفكر... و تتعدّد الزعامات في الفنّ الواحد حسب الأذواق و الانتماءات و الإيديولوجيات و التمتـّع بكرم الأسياد. بل إننا لا نزال نصنـّف مبدعينا، كما كنا نفعل مع الشعراء و الفقهاء والنحويين و رواة الحديث قديما، إلى طبقات. فكأننا ننشدّ إلى الأسماء فلا نحفل إلاّ بها... محمود درويش و نزار قباني و مرسال خليفة و فيروز و الشيخ إمام و حنا مينا و عبد الرحمان منيف و محمّد أركون و هشام جعيط وصلاح الدين الشريف و الطاهر الحداد و عبدالله العروي و محمد عابد الجابري و يوسف شاهين و سليّم عمّار و القائمة تطول... جعلناهم جميعا زعماء و افتتنـّا بهم. لكن هل غيّروا في حياتنا كثيرا أو قليلا؟ كأننا نتعلـّق بأسمائهم الكبيرة. أما ما أبدعوه فهو أشبه بوحي بعيد موغل في القداسة نخشع أمامه و تتصاغر إلينا أنفسنا، دون أن نحاوره لنتعلـّم منه. فيأتي هؤلاء و يمرّون و حالنا هي حالنا. و المشكلة ليست فيهم و لا في ما أبدعوا، بل هي فينا، في هوسنا بالزعماء الذي انتبه إليه من يمتصّون حياتنا، فصاروا يصنعون لنا الزعماء حتى نتلهّى بهم، فشيوخ علم و فنـّانون و سياسيون و مجاهدون و مفكـّرون و رياضيون و مستثمرون يوظفون أموالهم في المشاريع الخيرية و منشـّطون... و نحن نهلـّل و كلّ يعبد صنمه. و هذا يذكرني مرّة أخرى بما كتبه التوحيدي: "فمن غريب ما جرى أنّ أسود الزّبد كان عبدا يأوي إلى قنطرة الزبد و يلتقط النـّوى و يستطعم من حضر ذلك المكان بلهو و لعب، و هو عريان لا يتوارى إلا بخرقة، و لا يُؤبَهُ له، و لا يُبالـَى به. و مضى على هذا دهرٌ. فلما حلـّت النـّفرة أعني الفتنة، و فشا الهرج و المرج، و رأى هذا الأسود من هو أضعف منه قد أخذ السّيف و أعمله، طلب سيفا و شحذه، و نهب، و أغار و سلب، و ظهر منه شيطان في مسك إنسان، و صَبُحَ وجهُه، و عذبَ لفظهُ، و حسُن جسمُه، و عُشِقَ و عَشِقَ، و الأيام تأتي بالغرائب و العجائب..." ( الإمتاع – المصدر نفسه – ج 3 – ص 387 ).
           هذه حالنا إذن.. ركود من دونه ركود. و كما في كلّ عصورنا تزدهر ثقافتنا عندما تسوء حياتنا، و كأنـّه لا علاقة بين فننا و علمنا و بين حياتنا. و لدينا فئتان و ثقافتان، خاصّة لها سلطتها و نعيمها و ثقافتها... و عامّة لها لغتها و فنها و معارفها و قيمها و زعماؤها... و الكلّ يحلم بأن يغنم مالا أو جاها يرفعه إلى جنة الخاصّة. وبين الفئتين تقبع السلطتان الأعتى و الأضعف في الآن نفسه، تتبادلان الخبرات في فنون صناعة الأسيجة و أكل الكتف، و مثقف مضطرب بين الفئتين ينزل إلى الجماهير حينا فيعبّر عن همومها فتعبده دون أن تستمع إليه، ويتعالى حينا آخر إلى قمم فكره الجامح و خياله الخلاق، و بين النزول و الصعود تكثر خنادق الإغراءات والمحظورات، فتتشظى النخبة المثقفة إلى نُخب و ولاءات و إيديولوجيات و شراد في مشارق الأرض ومغاربها. و يضيع مفهوم الثقافة و المثقف. و يصبح مهمّش الأمس مدلـّل اليوم. و الأسياد يعبثون بالمثقف مرّة يقرّبون ويرفعون، و مرّة يسطقون و ينكـّلون و يكفـّرون كما كان قبل مئات السنين. و مثقف اليوم كشاعر الأمس يمدح من يطعمه و يهجو من يسيء إليه بعد أن يمعن في الفرار. وْ يا سادَه وْ يا مادَه، و يْدِلـْنا و يْدِلـْكـُم للشـْهادَه، و ألله لا تـَقـْطْعِلـْنا عادَه...
         هل علينا أن نبدأ الطريق من أوّلها؟.. هل نحتاج إلى فلسفة وضعية عربية تتغلغل عميقا في دواخلنا؟ هل نحتاج فلسفة أنوار ترشدنا إلى المواطنة و الدّولة و حقوق الإنسان؟ هل نحتاج إلى فرويد عربي يفكّ مغاليق عقدنا النفسية الجماعية؟ هل نحتاج مارتن لوثر يترجم ثقافتنا إلى لغاتنا التي تفهمها شعوبنا؟...أو هل سأواجه لهذه الأسئلة تهم الانسلاخ و العمالة للغرب و الإساءة إلى المقدّسات؟


                                                                                    عبدالله بنيونس
                                                                            مكثر – 20 / 11 / 2009

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا للسيّد عبد الله بن يونس على هذا المقال الجيّد الذي حاول فيه تشخيص الاوضاع الراهنة وطرح كثير من الحلول لها مستئنسا في ذلك بالمقاربة التاريخية واستلهام دروس التاريخ ..ارجو ان يلقى حظّه من القراءة والتفاعل

    ردحذف