الأربعاء، 4 أغسطس 2010

آخر إبداعات عبد اللّه بن يونس : قصّة الآخـــــــرون

        شقّ طاهر طريقه وسط الزحام بصعوبة، وهو يحمل قفته الثقيلة، ويطوف على بائعي الدّلاّع ليقارن الأسعار وجودة السلع.. إنّ السّوق الأسبوعية في هذه المدينة الصغيرة ذات الطابع الرّيفي تعدّ فرصة استثنائية في نظره لممارسة الاختيار، على الأقل في التـّسوّق. ففي أيام الأسبوع العادية كثيرا ما يحنق عندما يدفع نقوده مقابل سلع لا ترضيه ولا يجد غيرها. لكن السوق الأسبوعية تسمح بتوازن ما بين العرض والطلب وتتيح قدرا من المنافسة بين الباعة من حيث الجودة والأسعار، تكون في صالحه كمستهلك. ولذلك يحرص كثيرا على التمتـّع بحق الاختيار، رغم أنّ ذلك يكلفه مشقة إضافية وسط الزحام والضجيج إضافة إلى ثقل القفة التي يحملها. صحيح أن هذا الحق لا يتاح له إلا في الخضر والغلال، ولكن يشعره على الأقل ببعض الرضى والتعزّي عندما يحظى بتسوّق عادل إلى حدّ ما.. إنه ضرب من التعددية الرمزية إن صح التعبير، حتى لا يصبح طاهر مجرّد كدس من اللحم الحيّ بلا روح ولا شخصية...
      استقرّ رأيه أخيرا على نصبة دلاع طازج كثر فيها الزحام. فوقف منتظرا دوره، حتى إذا وجد مجالا تقدم فاختار واحدة، وتوجّه ناحية البائع ليزنها وينقد الثمن... لكن ما فاجأه حقا هو أنّ البائع يضع على كفة الميزان حجرا بين عيارات الوزن.. انتابته حيرة عميقة وتساءل سرّا وهو يقف مشدوها: أمازال الناس يزنون بالحجارة؟؟؟ ثمّ خاطب البائع:
     - يا أخي ما هذا الحجر؟
فأجاب البائع بنبرة حادّة مستنكرة:
     - وما به الحجر؟.. زنته خمسة كيلو. وأنا تأكدت منه بنفسي.. أم أنك لا تثق بي.. وهل تراني أسرق الناس في الميزان؟
     كان الغضب قد بدا على سحنة البائع حتى جحظت عيناه وتنمّرت ملامحه، لكنّ طاهرا أجابه بهدوء:
    - يا أخي لا يتعلق الأمر بالثقة، بل بالقانون.. هذه السوق في منطقة بلدية، ويحكمها قانون يحفظ حقوق البائع ويحمي المستهلك. وهذا القانون ينصّ على أنّ عملية الوزن تتمّ بعياراته المعروفة والمؤشرة في أسفلها بختم رصاصيّ يجدّد كل سنة. أمّا الوزن بالحجارة فأظن أنه ذهب مع العهود الغابرة.
     وعندها ردّ البائع بسخرية:
     - آه.. أنت من الذين يتكلمون بالقانون والبلدية؟... يعني قواد للحاكم.. عرفت أنك قواد للحاكم.
     وتجمّع الناس للفرجة، واشرأبت الأعناق بفضول قاتل.. وأدرك طاهر أنه لا فائدة من الحوار مع هذا البائع السليط. فقال وهو يأخذ قفته وينسحب:
     - اعذرني يا أخي.. فأنا لا أشتري بضاعة توزن بالحجر.
وهنا استشاط البائع جنونا، وانفجر يسبّ طاهرا ويشتمه بأبشع الألفاظ، وبسرعة خطف عيار الكيلو الحديدي وهمّ بضربه، فارتمى جماعة من المتفرجين عليه، يحاولون تهدئته وثنيه. فزاده إمساك الجماعة بتلابيبه جنونا أعمى، وراح يحاول الفكاك من أيديهم، وهو يواصل سيل السباب والشتائم ويتوعّد طاهرا بالويل والثبور إن تمكّن منه.
     أما طاهر فقد شعر بحجم الورطة التي وقع فيها.. فإن هو انسحب سيبدو جبانا أمام هذا البائع المستأسد الهائج، وإن هو ردّ عليه سيتورّط في مستنقع من العنف لا طائل من ورائه غير المزيد من القبح والفوضى... وبسرعة قرّر أن يستعمل وسائله لتلقين هذا البائع درسا في البيع النزيه واحترام الزبائن.
     عدل عن الابتعاد، ووضع قفته، ووقف يخاطب الجماعة بهدوء:
     - اتركوه لنرى ما سيفعله.. أطلقوه لنرى بطولته.
 لكنّ صوته الهادئ ضاع في هدير البائع الهائج.. واستمرّ الوضع لحظات حتى خمد جموح الأخير. فالتفت بعض الحاضرين إلى طاهر يطلبون منه الانصراف والصلاة على النبيّ. وأحاطه أحد الحاضرين ممن يعرفه بذراعه ومضى به مبتعدا وهو يسرّ له:
       - دعك منه ومن أمثاله.. أنت إنسان نظيف، فما الذي يدفعك إلى هذه المطبات؟ إذا لم يعجبك شيء فلا تشتر، واكتف بالصمت حتى تربح قدرك وراحتك.
      - كيف أصمت؟ وهل أترك له أن يتبجّح عليّ ببطولته وجبروته؟.. إذا كان يظن أنه يخيفني فهو مخطئ.. البلاد فيها قانون وسأتقدم بشكوى.
      - يا ابني دعك من المشاكل.. وماذا ستفعل له إذا اشتكيته؟ ستخلق لنفسك عداوات وخصوما ولن تصل إلى شيء.
     - سأتقدم بشكوى وسنرى من الذي يدفع الثمن في النهاية.. لا بدّ أن أرفع قضية، وإذا حكم له القانون بأن يفعل ما فعل فله ذلك.
     - يا ولدي دعك من هذا.. هل أنت وجه قانون ومحاكم وقضايا؟.. أنت شخص نظيف فابتعد عن هذه الأمور كلها وحافظ على احترامك وهيبتك ودع المحاكم لأهلها... مالك في جيبك اشتر به ما تشاء ومن أي مكان تشاء، ولا تهتم إذا كان يزن بالحجر أم بالطوب.. هذا ليس عملك.. هناك بلدية عليها أن تقوم بواجبها وتراقب. أما أنت فلا تحشر نفسك في هذا...
    وابتعد طاهر وهو ينوي التوجّه مباشرة إلى مركز الشرطة.. فهذا التاجر المتصعلك أهانه واعتدى عليه أمام الناس حميعا، ولعلـّه بذلك الاستعراض السخيف يظهر شرّه للآخرين حتى يقبلوا صاغرين بطريقته الغريبة في الوزن. ولذلك عليه أن يلجأ إلى القانون حتى يردّ اعتباره أمام الناس، وحتى يضع حدّا لهذا البائع المستأسد ويُفهم كلّ الحاضرين من باعة ومتسوّقين أنّ أساليب العنف والبلطجة لا تنفع في بلاد يحكمها القانون. بل إنّ واجبه كإنسان متنوّر أن يضع له حدّا حتى لا يتحوّل السوق إلى مرتع للتجار الخارجين على القانون، والذين يرهبون الناس حتى يرضخوا لأساليبهم في التحيّل والغشّ والسّرقة... صحيح أنّ هذا البائع مجرّد مستأسد صغير يتعلـّم البلطجة من مستأسدين أكبر منه. وربما ما فعله لا يساوي شيئا أمام ما تمارسه عصابات السّرّاق والمجرمين بالبلاد والعباد باسم التجارة والاستثمار وأشياء أخرى.. ومع ذلك فما جرى خطير جدّا، لأنـّه عندما يستعمل بائع حجرا مكان العيارات المؤشرة، ويشتري منه الناس ويقبلون الأمر وكأنـّه لا عيب فيه فالأمر خطير. وعندما يدّعي ذاك البائع أنـّه صاحب حقّ، ويستهتر بالقانون على الملأ وفي السوق الأسبوعية، ويسبّ ويشتم ويهدّد ويرهب ليفرض ألاعيبه حتى كأنه يصنع قانونه الخاصّ ويُخضع الناس له فالأمر خطير. ثم أن يشعر هوّ نفسه أنـّه فريسة سهلة لجنون بائع هائج لأنّه طالب بميزان قانوني فهذا أيضا خطير، إذ تبدو البلاد وكأنها بلا قانون، أو أنّ قانونها ينطبق على مناطق وفئات من الناس دون أخرى... والسّكوت على البلطجة الصغيرة أو الكبيرة يحوّل البلاد إلى غابة يحكمها قانون الغاب، بل تصبح البلطجة سلوكا عاديا يقبله الكبير والصغير، ويتعلـّمه الغرّ عن الخبير، بل ربما نُظر إلى البلطجة على أنها معيار البطولة والذكاء والنجاح، فيصبح المجرمون والسّرّاق نماذج راقية في المجتمع... وتعود البلاد إلى عصور الظلام والفوضى، وهي التي تطرح على نفسها المجتمع المدني وسيادة القانون وحقوق المواطنة. فأيّ مدنية هذه إذا كانت هذه الفوضى تحدث في سوق بلدي ينتصب في البطحاء الواسعة الممتدّة أمام البلدية مباشرة؟.. وأيّ مواطنة هذه إذا كان هو المواطن المنضبط والحريص على حقوقه كمواطن يتعرّض إلى مثل هذه الهرسلة من بائع دلاع في سوق أسبوعية؟.. ماذا سيفعل به الكبار والمتنفذون إذا تعوّد السكوت على حقه؟.. وإذا لم يتكلـّم هو بما لديه من وعي نسبيّ بمعنى المواطنة وسيادة القانون فمن الذي يتكلـّم؟...
      زادته هذه الأفكار والأسئلة إصرارا فتوجّه مباشرة إلى مركز الشرطة. وفي مكتب الاستقبال سأله أحد الأعوان عن حاجته فشرحها له. فطلب منه الانتظار.. وظلّ واقفا في بهو المركز والأعوان يخرجون ويدخلون ويرمقونه بنظراتهم المريبة حتى بدأ يتساءل بحيرة إذا كان قد أزعجهم بشيء حتى ينظروا إليه بتلك الطريقة... حتى اقترب منه أحدهم وسأله بجفاء:
     - هل أنت من هذه المدينة؟
     شعر طاهر أنّ في سؤاله وملامحه شيء غير مفهوم من السخرية أو الضّيق أو الترفـّع. فردّ بلهجة حازمة:
     - نعم. أنا من هذه المدينة، ومواطن أجتهد في عملي وأدفع ضرائبي، وأنتظر من قانون بلادي أن يحميني من مثل هذه الاعتداءات.
      وعندها قاطعه العون:
     - طيّب طيّب.. سنذهب معك إلى هذا البائع وسنفعل اللازم.
    وغاب لحظة ثم عاد صحبة زميل له. وطلبا من طاهر أن يرافقهما إلى مكان الحادثة.
      عند وصولهم كان البائع منهمكا في تجارته يزن الدّلاّع بالحجر والزبائن المزدحمون يدفعون المال راضين كما لو أنّ شيئا لم يحدث. اقترب أحد رجلي الأمن من البائع وطلب منه بطاقة هويته. فرفع الأخير رأسه. وما إن لمح العونين وطاهرا حتى ثارت ثائرته من جديد. وأخذ يصيح بأعلى صوته منكرا امتلاكه بطاقة هوية ومتهما طاهر بأنه البادئ بالاعتداء والتهجم أمام الشهود.. وظل أحد الرجلين صامتا بينما طلب منه الآخر أن يصمت ويسلم بطاقة هويته، لكنه لم يحفل به، بل إن صوت رجل الأمن بدا ضعيفا ضائعا وسط صياح البائع المتصاعد..
      ظل طاهر يرقب ما يجري هادئا حتى حزّ في نفسه أن يتعنتر هذا البائع كأنه لا يوجد من يردعه، فخاطبه بحدّة:
     - يعني البلاد على قرنك؟.. تعتدي كما تشاء وتوجّه التهم وتختلق شهود زور وتتعنتر على رجال الأمن كأن البلاد على قرنك.. من تظن نفسك؟..
    وعندها التفت العون الذي ظل صامتا إلى طاهر وخاطبه بحدّة:
     - اسكت.. إذا كنت تريد التصرف بنفسك لماذا جئتنا؟ نحن موجودون وسنتولى الأمر، وعليك أن تسكت.
     فامتثل طاهر مرددا:
     - سكتت.. سكتت.
      وانحنى العون على الميزان فحمله، وطلب من البائع بحسم أن يلحق إلى المركز، وتحرّك هو وزميله فلحق بهما طاهر والبائع الذي لم يتوقف عن كيل التـّهم وادّعاء البراءة لكن بهدوء هذه المرّة.
       في المركز قاموا بوضع القود الحديدية حول يدي البائع ووضعوه في غرفة قصيّة. وظل طاهر واقفا دون أن يكلـّمه أحد. لكن البائع انفلت من الغرفة وجرى نحو طاهر ويداه مقيدتان خلف ظهره، وارتمى عليه يحاول تقبيله وهو يستعطف ويستجدي الصفح والمسامحة. فتراجع طاهر وهو يقول له:
      - أنت خالفت القانون، ثم اعتديت عليّ أمام الجميع وتصرفت كبطل.. كان باستطاعتي أن أجن مثلك وأسبّ وأهدّد وأضرب... لكنني لم أفعل. وعوض أن تنتبه إلى ذلك رحت تتعنتر أمام الناس وتظهر بطولتك وكأنـّك الأسد الهزبر وأنا الفريسة... عليك الآن أن تتحمل مسؤولية ما فعلت.
     فردّ البائع بتوسّل:
     - أنا صغير وأخطأت.. أعماني الغضب وأخطأت فسامحني أتوسّل إليك.
     - ليس لي معك حديث.. نحن الآن في مركز الأمن، والقانون بيني وبينك.
    لكن البائع واصل توسّله ومسكنته، حتى اقترب أحد الأعوان فانتهره وأمره بالعودة إلى الغرفة، والتفت إلى طاهر وقال له وهو يمدّ إليه ورقة:
     - هذه هويته.. إذا كنت متمسّكا بحقك ضدّه فعليك أن ترفع دعوى قضائية لدى المحكمة. أما نحن فنعرف عملنا معه.
      وغادر طاهر المركز بعد أن ترك خصمه موقوفا مقيّد اليدين. وراح يتأمل هوية البائع ويتساءل: هل يعتبر ما حدث للبائع جزاء مناسبا لما اقترفه في حقه ويكف عن تتبّعه؟.. لقد أثبت له، ولكلّ من كان حاضرا أنّ الوزن بالحجر سلوك متخلف وغير قانوني، كما أثبت أن البلطجة والترهيب لا تعلو على القانون إذا وُجد من يتصدى لها ويستميت في محاربتها. وأنّ القانون يمكن أن يسود ليشكم السّرّاق والنهابين والمتحيّلين إذا تمسّك الناس بحقوقهم ودافعوا عنها وتصدّوا لمن يحاول هرسلتهم. .. ولكن أيّ هرسلة؟.. وهل يكفي ما حلّ بهذا البائع الساذج ليسود القانون؟.. ماذا عن النهّابين الكبار؟.. ومصّاصي الدّماء الحقيقيين؟.. من يتصدّى لهم؟... أخذته رأفة مفاجئة بذلك البائع، وتذكـّر سلوكه وسحنته عندما كان يصول كالأسد أبي سلسلة والناس يمسكونه، ثمّ عندما جرى نحوه ذلولا مستكينا معوجّ القوام من أثر القيد في يديه، وأخذ يستعطف ويتمسكن، وتساءل هل يفعل عاقل بنفسه هذا؟.. وهل يقود التـّهوّر عاقلا إلى أن يضع نفسه تحت رحمة الآخرين؟... أعاد تأمّل الورقة في يده.. الاسم الثلاثي وتاريخ الميلاد وعنوان الإقامة.. ناجم بن صالح المجبري.. ثلاث وعشرون سنة... شابّ بالكاد يشرع في خطو أوّل خطواته في هذه الحياة، ويسلك طريقه كتلميذ نجيب يطبّق الدروس الأولى التي تعلـّم.. شطحات العنف الغريبة كفيلة بأن تجعل جانبه مرهوبا وتجارته نافقة وما يأتيه من ألاعيب مقبولا.. وإذا وقع غيّر استراتيجيته فانقلب إلى الاستعطاف والمسكنة... ربما لم يتقن اللعبة جيّدا، وإلا كان فكر في طريقة أخرى لقلب الأمور لصالحه.. ربما لم يكسب المال اللازم والنفوذ... أو ربّما يتقنها جيّدا، ويعرف الخانة التي ينتمي إليها وحجم العنف المتاح له.. فالعنف أيضا تعبيرة تأخذ مكانها في سلـّم اجتماعيّ يأخذ فيه الناس مواقعهم بحسب مقدار العنف الذي يمكنهم ممارسته بأياد نظيفة.. بدءا من البلطجة العلنية أمام عدد من البشر يكون كافيا لنشر سمعة من الرّعب تضمن للواحد مكانا بين المحيطين به.. ثم تتعالى درجات العنف أخطر فأخطر، ومعها تتعاظم درجات الرّعب الذي يولـّده كلّ عنف... إنّها غابة مقسّمة إلى مناطق نفوذ يعلـِّم فيها كل مخلوق حدود منطقته. وليست العلامات هذه المرّة رائحة مميّزة أو وبرا أو فضلات مختلفة، بل هي حجم العنف ونوعيّته، وهو ما يحدّد حجم سمعة الرّعب ونوعها، وبالتالي اتساع منطقة النفوذ.. و قد تصبح هذه المنطقة مملكة تسمح بتواجد مناطق نفوذ صغيرة داخلها، فيعلـّم كلّ مخلوق صغير منطقته بعنفه الخاص ورعبه الذي ينسجم مع مستواه ومقدار بطشه.. وطبعا توجّه العلامات دائما إلى المخلوقات الأصغر والأضعف، وإلاّ فإنّ ذلك المخلوق يسحق كحبّة عنب تحت حذاء ثقيل... ماذا يساوي ذلك البائع البائس في هذا النظام المحكم والمعقـّد؟.. لعله ليس أكثر من قارض صغير يرهب الخنافس والهوامّ الضئيلة...
     كان طاهر يطوف السوق وهو في خلوته مع أفكاره تلك في شبه ذهول حتى قادته قدماه دون أن يدري إلى النصبة ذاتها، فإذا هي خالية إلا من كدس الدّلاّع ورجل في أوّل الشيخوخة وقف حارسا.
     ارتمى عليه الرّجل ما إن رآه، وقدّم نفسه على أنـّه خال البائع، وأخذ يستعطفه حتى يعدل عن رفع دعوى. واجتمع حولهما آخرون من الباعة المجاورين والمارّة:
      قال الرّجل لطاهر:
      - ليكن العقل منك.. أما هوّ فصغير وطائش وإلا ما كان يفعل ما فعل.. والله عرسه على الأبواب وهو يعمل ليلا نهارا، فارأف به.
      وأيّد الآخرون كلامه. ثم قال آخر:
     - والله نهبوها له.. ما إن اختفى وراء العونين حتى عملت أيدي المتحلـّقين فإذا كثيرون منهم ينهبون ويمضون..
     فردّ عليه آخر متسائلا:
      - وماذا تنتظر منهم؟.. رزق مات أهله، فماذا يفعلون به؟..
    فتدخّل رابع مخاطبا طاهر:
      - هذه خطيته.. فهل تريد بعد كل ما أصابه أن ترفع دعوى؟.. وبماذا ستفيدك الدعوى؟.. خطية مالية يأخذها الحاكم من هذا المسكين فيتعرّى رأسه أكثر دون أن يلحقك منها غير الدّعاء...
    كان طاهر قد ظلّ خلال كلّ ذلك صامتا، ثم أجابهم:
     - أنا لم أفعل له شيئا.. هو من فعل بي وبنفسه، وبعضكم كان شاهدا.
     فردّ بعضهم معا:
     - كنّا شاهدين، وأنت كنت عاقلا ولم يصدر عنك ما يعيب. فلتكن عاقلا وتصفح عنه.
      لكن واحدا منهم ردّ عليهم:
     - المسكين موقوف الآن، وأنتم تستعطفون سي الطاهر.. يبدو أن الموضوع خرج من يده، ولن يفيده حتى إذا سامحه.
     فردّ بعضهم:
     - اترك المركز علينا.. إذا تنازل سي الطاهر وعدل عن فتح قضية في المحكمة فالباقي علينا.
     وأخذت الحميّة الخال فأخذ يسبّ ابن أخته ويتحسّر على ضياع العقل والرّجولة، ويلعن التهوّر الذي يدفع صاحبه إلى ما يدفع عدوّ عدوّه.
      عندها تكلم طاهر من جديد:
      - أنتم تتعبون أنفسكم في إقناعي بمسامحته.. أنا أصلا سامحته.. ليست لديّ مشكلة معه..
      ثمّ ردّد كأنّه يخاطب نفسه: مشكلتي أكبر من هذا البائع.. إنـّها مع الآخرين.. مشكلتي مع الآخرين...
                                    مكثر جويلية 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق